الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)} {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} يعني: الذين آمنوا بلسانهم، ولم يؤمنوا بقلوبهم. ويقال: أراد به المخلصين نهاهم الله تعالى عن ولاية الكفار. وروى محمد بن إسحاق بإسناده، عن عبد الله بن عباس قال: كان «رفاعة بن زيد بن تابوت وسويد بن الحارث» قد أظهرا الإسلام، ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله تعالى {لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ} الإسلام {هُزُواً وَلَعِباً} يعني: سخرية وباطلاً {مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَاء} يعني: مشركي العرب. قرأ أبو عمرو والكسائي {والكفار} بالخفض، وقرأ الباقون بالنصب. فمن قرأ بالخفض فمعناه: من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الكفار أولياء، ومن قرأ بالنصب، فهو معطوف على قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا الكفار أَوْلِيَاء} ثم قال: {واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يعني: إن كنتم مؤمنين فلا تتخذوا الكفار أولياء. قوله تعالى: {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة} يعني: إذا أذن المؤذن للصلاة، وإنما أضاف النداء إلى جميع المسلمين، لأن المؤذن يؤذن لهم ويناديهم، فأضاف إليهم فقال: {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة} {اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً} يعني: الكفار، إذا سمعوا الأذان استهزؤوا به. وإذا رأوهم ركعاً وسجداً ضحكوا واستهزؤوا بذلك. {ذلك} الاستهزاء {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} يعني: لا يعلمون ثوابه. وقال الضحاك: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، وقال: «من أَتَّخِذُه مؤذّناً؟». قال: يا محمد عليك بالعبد الأسود، فإنه مشهود في الملائكة، وجهير الصوت، وأحبّ المؤذنين إلى الله تعالى. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، وعلمه الأذان، وأمره أن يصعد سطح المسجد ويؤذن. فلما أذن سخر منه أهل النفاق، وأهل الشرك، وكذلك يوم فتح مكة. أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يؤذن على ظهر الكعبة، فسخر منه كفار الأعراب، وجهالهم، فنزل قوله تعالى: {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً} يعني: المنافقين، واليهود، ومشركي العرب. وروى أسباط عن السدي قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله قال: حرق الله الكاذب. فدخلت خادمته ليلة من الليالي بنار، وهم نيام فسقطت شرارة في البيت فاحترق البيت، واحترق هو وأهله، واستجيب دعاؤه في نفسه. وروي عن ابن عباس هذه الحكاية نحو هذا إلا أنه ذكر اليهودي. وقوله تعالى:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)} {قُلْ يَا أهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} يقول: ما تطعنون فينا وتعيبوننا، {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ} أي سوى أنا قد آمنا بالله وآمنا ب {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} يعني: من القرآن، {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} القرآن يعني: التوراة والإنجيل، {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون} يعني: لم تؤمنوا لفسقكم، وعصيانكم. وقال الزجاج: معنى {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} هل تكرهون منا إلا إيماننا. وبفسقكم إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على الحق، لأنكم فسقتم، ولم تثبتوا على دينكم، لمحبتكم الرئاسة ومحبتكم المال. وقوله تعالى {قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك} قال مقاتل: وذلك أن اليهود، قالوا للمؤمنين: ما نعلم أحداً من أهل هذه الأديان أقلّ حظاً في الدنيا ولا في الآخرة منكم، فنزل {قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ} يعني: أخبركم بشر من ذلك {مَثُوبَةً عِندَ الله} يعني: ثواباً عند الله فقالت اليهود: من هم؟ قال: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} فقال المسلمون لليهود: يا إخوة القردة والخنازير. فنكسوا رؤوسهم، وخجلوا. ومثوبة صار نصباً للتمييز يعني: التفسير. ثم قال: {وَعَبَدَ الطاغوت} قرأ حمزة {وَعَبَدَ الطاغوت} بنصب العين والدال، وضم الباء، وكسر التاء، من الطاغوت، لم يصح في اللغة أن يقال لجماعة: الأعبد. وإنما يقال: أعبد، ولا يقال: عبد. وقرأ الباقون: {وَعَبَدَ الطاغوت} يعني: جعل منهم من عبد الطاغوت، ومعناه: خذلهم حتى عبدوا الشيطان، وروي عن ابن عباس أنه قرأ {وَعَبَدَ الطاغوت} بضم العين، ونصب الباء بالتشديد، يعني: جمع عابد. يقال: عابد وعبَّد، مثل راجع وركَّع، وساجد، وسُجَّد. وقرأ ابن مسعود (وعبدوا الطاغوت) يعني: يعبدون الطاغوت، وقرأ بعضهم {وَعَبَدَ الطاغوت} بضم العين والباء، ونصب الدال، وهو جماعة العبيد. ويقال: عبيد وعُبُد، على ميزان رغيف ورُغُف، وسرير وسُرُر. ثم قال: {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً} يعني: شر منزلة عند الله {وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل} يعني أخطأ عن قصد الطريق وهو الهدى. ثم قال: {وَإِذَا الذين قَالُواْ ءامَنَّا} وهم المنافقون من أهل الكتاب. قالوا: صدقنا ووجدنا نعتك. وأرادوا بذلك أن يمدحهم المسلمون، وهذا كقوله {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188] فأخبر الله تعالى عن حالهم فقال: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} يعني: هم كافرون في الأحوال كلها، ولا ينفعهم ذلك القول: {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} يعني: عليم بمجازاتهم وهذا تهديد لهم. ثم قال:
{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} {وترى كَثِيراً مّنْهُمْ يسارعون فِى الإثم} يعني: المعصية {والعدوان} يعني: الظلم، وهو الشرك، {وَأَكْلِهِمُ السحت} يعني: الرشوة في الأحكام، {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يعني: لبئس ما كانوا يتزودون من دنياهم لآخرتهم. ثم قال: {لَوْلاَ ينهاهم الربانيون} يعني: هلاّ ينهاهم الربانيون يعني: علماؤهم وعبادهم. وإنما شكا من علماء السوء الذين لا يأمرون بالمعروف، ويجالسونهم، ويؤاكلونهم، وكل عالم لم يأمر بالمعروف، ويجالس أهل الظلم، والمعصية، فإنه يدخل في هذه الآية، فقال: {والاحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} حين لم ينهوهم عن قولهم الإثم، وأكلهم السحت، ورضوا بفعلهم قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وذلك أن الله تعالى قد بسط عليهم الرزق، فلما عصوه وجحدوا نعمته، قتر عليهم الرزق، فقالوا عند ذلك: يد الله محبوسة عن البسط، فأمسك عنا الرزق. قال الله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} يعني: أمسكت أيديهم عن الخير، ويقال: هذا وعيد لهم، غلت أيديهم في نار جهنم. ويقال: جُعِلوا بخلاء، فلا يعطون الناس شيئاً مما أعطاهم الله تعالى. ثم قال: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} يعني: عُذِّبوا وطُرِدوا من رحمة الله، لقولهم ذلك. ثم قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يعني: رزقه واسع باسط على خلقه {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} يقول: يرزق لمن يشاء مقدار ما يشاء، فله خزائن السموات والأرض. وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَالَ الله تَعَالى: لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ، وَجِنَّكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، سَأَلَ كُلُّ رَجُلٍ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَتُهُ فَأَعْطَيْتُهُ، لَمْ يَنْقُصْ ذلك مِنْ خَزَائِنِ مُلْكِي مِقْدَارَ مَا يُغْتَرَفُ مِنَ البَحْرِ بِرَأسِ إبْرَةٍ وَاحِدَةٍ» ثم قال تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم} يعني: من اليهود، {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن، {مِن رَّبّكَ طغيانا} يعني: تمادياً بالمعصية، {وَكُفْراً} وجحوداً بالقرآن يعني: كل ما نزل عليك شيء من القرآن كفروا به، فيزيد جحودهم في طغيانهم، وإنما نسب ذلك إلى ما أنزله، لأن ذلك سبب لطغيانهم وجحودهم. وهذا كما قال في آية أخرى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] يعني: أن ذلك سبب لخسرانهم. ثم قال تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة} يعني: جعلهم الله مختلفين في دينهم، متباغضين كما قال في آية أخرى: {لاَ يقاتلونكم جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]. ثم قال: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} يقول: كلما أجمعوا أمرهم على المكر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرقه الله تعالى، وأطفأ نار مكرهم، أي: يسكته الله تعالى، ووهن أمرهم، وهذا على وجه الكناية كما قال: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ثم قال: {وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً} يعني: يعملون فيها بالمعاصي، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله تعالى، {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} يعني: لا يرضى بعمل الذين يعملون بالمعاصي، والله لا يحب أهل الفساد، ولا عملهم. وقوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب} يعني: اليهود والنصارى، {ءامَنُواْ} يعني: صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {واتقوا} الشرك والمعاصي، {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم} يعني: غفرنا ذنوبهم، {ولادخلناهم جنات النعيم} في الآخرة. ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} يعني: أقرّوا بما فيهما، وبيّنوا ما كتموا، {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} يعني: بما أنزل إليهم من ربهم، يعني: عملوا بما أنزل إليهم من ربهم في كتابهم؛ ويقال: القرآن. {لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ}، يعني: يرزقهم الله تعالى المطر من فوقهم، في الوقت الذي ينفعهم، {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يعني: النبات من الأرض، وقال الزجاج: هذا على وجه التوسعة. يقال: فلان خيره من فوقه إلى قدمه، يعني: لو أنهم فعلوا ما أمروا لأعطاهم الله الخير من فوقهم ومن تحت أرجلهم، يعني: صاروا في الخير في الدنيا والآخرة. وروى أبو موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران. ثم قال: {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} يعني عصبة وجماعة عادلة، وهم مؤمنو أهل الكتاب، من أهل التوراة والإنجيل {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} الذين لم يصدقوا ولم يؤمنوا. قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} {ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام فجعلوا يستهزئون به ويقولون: إنك تريد أن نتخذك حَنَّاناً كما اتخذت النصارى عيسى عليه السلام، فلما رأى ذلك سكت عنهم. فأمره الله أن يدعوهم ولا يمنعه عن ذلك تكذيبهم إياه فقال: {يَعْمَلُونَ ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} يعني: من القرآن {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} إن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يعني: كأنك لم تبلغ شيئاً من رسالته، لأنه أمر بتبليغ جميع الرسالة. فإذا ترك البعض صار بمنزلة التارك للكل. كما أن من جحد آية من كتاب الله تعالى صار جاحداً للجميع، ويقال: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يعني: فما بلغت المبلغ الذي تكون رسولاً وروى «سمرة بن جندب»، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمُ فَإنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي قَدْ قَصَّرْتُ عَنْ شَيْءٍ مَنْ تَبْلِيغِ رِسَالاتِ رَبِّي فَأَخْبِرُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّي كَمَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُبَلَّغَ " فقام الناس، فقالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، وقضيت الذي عليك. وروى مسروق عن عائشة قالت: من حَدّثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي، فقد كذب. ثم قرأت {يَعْمَلُونَ ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} الآية. ثم قال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} يعني: اليهود ويقال: كيد الكفار. وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه بالليل، حتى نزلت هذه الآية فخرج إليهم وقال: " لا تَحْرُسُونِي فَإنَّ الله قَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ " ثم قال: {إِنَّ الله * يَهْدِي القوم الكافرين} يعني: لا يرشدهم إلى دينه، ويقال: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا أُبَالِي مَنْ خَذَلَنِي مِنَ اليَهُودِ وَمَنْ نَصَرَنِي " قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر. {فَمَا بَلَّغْتَ} بلفظ الجماعة. وقرأ الباقون: {يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} بلفظ الواحد يغني عن الجماعة. ثم علّمه كيف يبلغ الرسالة فقال: {قُلْ ياأهل 1649;لكتاب لَسْتُمْ على شَئ} من الدين ولا ثواب لأعمالكم {حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل} يعني: تعملوا بما في التوراة، والإنجيل {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ} يعني: حتى تقروا بما أنزل على نبيكم صلى الله عليه وسلم من القرآن، وتعملوا به. ثم قال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن {مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً} يعني: تمادياً بالمعصية، وكفراً بالقرآن. يعني: إنما عليك تبليغ الرسالة والموعظة، فإن لم ينفعهم ذلك فليس عليك شيء. {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} يعني: لا تحزن عليهم إن كذبوك. وروى محمد بن إسحاق بإسناده عن ابن عباس أنه قال: جاء رافع بن حارثة، وسلام بن مشكم، ومالك بن الضيف، وقالوا: يا محمد: ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ وتؤمن بما عندنا من التوراة؟ وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلَى ولكنكم أَحْدَثْتُمْ، وَجَحَدْتُمْ ما فِيهَا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ المِيثَاقِ، وَكَتَمْتُمْ مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ فَبَرِئْتُ مِنْ إحْدَاثِكُمْ» فقالوا: فإنّا قد آمنا بما في أيدينا، وإنا على الهدى والحق، ولا نؤمن بك، فنزل {قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَئ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل}. قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)} {إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر} قال في رواية الكلبي: هم قوم آمنوا بعيسى، ولم يؤمنوا بغيره، ولم يرجعوا. ويقال {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} بألسنتهم وهم المنافقون. ويقال: في الآية تقديم يعني: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} من آمن من اليهود والنصارى والصابئين، {وَعَمِلَ صالحا} فلهم أجرهم عند ربهم. وقال: في هذه السورة {والصابئون} وقال في موضع آخر: {والصابئين} لأنه معطوف على خبر إن وكل اسم معطوف على خبر إن، كان فيه طريقان، إن شاء رفع، وإن شاء نصب، كقوله: «إن زيداً قادم وعمرو» إن شاء نصب الثاني، وإن شاء رفعه، كقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الاكبر أَنَّ الله برئ مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3] وقد قرأ: ورسوله ولكنه شاذ، وكذلك ها هنا جاز أن يقول: (والصابئين) {والصابئون}، إلا أن في هذه السورة كتب بالرفع. ثم قال: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يعني: لمن آمن، والذين سبق ذكرهم فلهم ثوابهم عند ربهم الجنة فلا خوف عليهم، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسراءيل} يعني: عهدهم في التوراة، {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} يعني: بما لا يوافق هواهم، {فَرِيقاً كَذَّبُواْ} مثال عيسى ومن قبله، {وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} مثل يحيى وزكريا، وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، فالله تعالى أمر النبي بتبليغ الرسالة، وأمره بأن لا يحزن عليهم إن لم يؤمنوا، لأنهم من أهل السوء الذين فعلوا هذه الأفعال. ثم قال: {وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يعني: ظنوا أن لا يبتلوا بتكذيبهم الرسل، وقتلهم الأنبياء، ويقال: ظنوا أن لا يعاقبوا، ولا يصيبهم البلاء والشدة والقحط. ويقال: ظنوا أن قتل الأنبياء لا يكون كفراً. ويقال: ظنوا أن لا تفسد قلوبهم بالتكذيب وقتل الأنبياء. قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو: {أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} بضم النون. وقرأ الباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب، بمعنى أن. ومن قرأ بالضم يعني: حسبوا أنه لا تكون فتنة. معناه: حسبوا أن فعلهم غير فاتن لهم. ثم قال تعالى: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} يعني: عموا عن الحق، وصمّوا عن الهدى، فلم يسمعوه، {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} يقول: تجاوز عنهم، ورفع عنهم البلاء، فلم يتوبوا {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ} ويقال: معناه تاب الله على كثير منهم، {عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ} ويقال: من تاب الله عليهم، يعني: بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى التوراة {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال: {وَصَمُّواْ ثُمَّ} حين عبدوا العجل، ثم تاب الله عليهم بعدما قتلوا سبعين ألفاً وهذا على جهة المثل. يعني: لم يعملوا بما سمعوا، ولم يعتبروا بما أبصروا، فصاروا كالعمي والصمي. ثم قال: {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل يعني: عليم بمجازاتهم. قوله تعالى:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} وذلك أن نصارى أهل نجران يزعمون أنهم مؤمنون بعيسى، فأخبر الله تعالى أنهم كافرون بعيسى، وأنهم كاذبون في مقالتهم، وأخبر أن المسيح دعاهم إلى توحيد الله، وأنهم كاذبون على المسيح. وهو قوله {وَقَالَ المسيح يَابَنِى إسراءيل ****اعبدوا الله} يعني: وحدوا الله وأطيعوه، {رَبّى وَرَبَّكُمْ} يعني: خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم. ثم قال: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله} يعني: ويموت على شركه، {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} أن يدخلها، {وَمَأْوَاهُ النار} يعني: مصيره إلى النار، {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} يعني: ليس للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب. ثم أخبر أن الفريق الآخر من النصارى هم كفار أيضاً، فقال: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة} فيه مضمر معناه: ثالث ثلاثة آلهة، ويقال: ثلث من ثلاثة آلهة، يعني: أباً وأماً وروحاً قدساً، يعني: الله ومريم وعيسى. قال الله تعالى ردّاً عليهم: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد} يعني: هم كاذبون في مقالتهم، ثم أوعدهم الوعيد إن لم يتوبوا فقال: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} يعني: إن لم يتوبوا، ولم يرجعوا عن مقالتهم، {لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} فهذا لام القسم، فكأنه أقسم بأنه ليصيبهم {عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني: إن أقاموا على كفرهم. ثم دعاهم إلى التوبة فقال: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله} من النصرانية، {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} عن مقالتهم الشرك، فإن فعلوا فإنَّ {والله غَفُورٌ} للذنوب {رَّحِيمٌ} بقبول التوبة، ويقال: قوله: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} لفظه لفظ الاستفهام والمراد به الأمر فكأنه قال: توبوا إلى الله، وكذلك كل ما يشبه هذا في القرآن، مثل قوله: (أتصبرون) يعني: اصبروا. ثم بيّن الله تعالى أن المسيح عبده ورسوله، وبيّن الحجة في ذلك، فقال:
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} {مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلاَّ رَسُولٌ} يعني: هو رسول كسائر الرسل، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} وهو من جماعة الرسل، {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ} شبه النبيين، وذلك حين صدقت جبريل حين قال لها: {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً} [مريم: 19] والصديق في اللغة هو المبالغ في التصديق. وقال في آية أخرى: {مِن قَبْلِهِ الرسل وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} يعني: المسيح وأمه كانا يأكلان ويشربان. ومن أكل وشرب، تكون حياته بالحيلة، والرب: لا يأكل ولا يشرب. ويقال: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} كناية عن قضاء الحاجة. لأن الذي يأكل الطعام. فله قضاء الحاجة. ومن كان هكذا لا يصلح أن يكون ربّاً. ثم قال: {انظر كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الايات} يعني: العلامات في عيسى ومريم أنهما لو كانا إلهين ما أكلا الطعام، {ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ} يقول: من أين يكذبون بإنكارهم بأني واحد. وقال القتبي: {أنى يُؤْفَكُونَ} يعني: أنى يصرفون عن الحق ويعدلون عنه. يقال: أفك الرجل عن كذا، إذا عدل عنه. ثم أخبر الله تعالى عن جهلهم، وقلة عقلهم، فقال: {قُلْ} يا محمد، {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يعني: عيسى، {مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ} يقول: ما لا يقدر لكم، {ضَرّا} في الدنيا {وَلاَ نَفْعاً} في الآخرة: وتركتم عبادة الله، {والله هُوَ السميع} لقولكم، {العليم} بعقوبتكم. وقوله تعالى: {قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الحق} يقول: لا تجاوزوا الحد، والغلو: هو الإفراط والاعتداء. ويقال: لا تتعمقوا. ثم قال: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ} وهم الرؤساء من أهل الكتاب، يعني: لا تتّبعوا شهواتهم، لأنهم آثروا الشهوات على البيان والبرهان، {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} وهم رؤساء النصارى ضلوا عن الهدى، {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} من الناس، {وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل} يعني: اخطؤوا عن قصد الطريق. وقال مقاتل: نزلت في برصيصا العابد، فجاءه الشيطان فقال له: قد فضلك الله على أهل زمانك لكي تحل لهم الحرام، وتحرم عليهم الحلال، وتسن لهم سنة، ففعل فاتبعه الناس بذلك، ثم ندم على فعله. فعمد إلى سلسلة، فجعلها في ترقوته فعلق نفسه فجاءه ملك، فقال له: أنت تتوب فكيف لك من تابعك؟ فذلك قوله: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل} وقوله تعالى:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بَنِى إسراءيل} يعني: اليهود، {على لِسَانِ دَاوُودُ} وذلك أن الله تعالى مسخهم قردة، حيث اصطادوا السمك يوم السبت، {وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} يعني: وعلى لسان عيسى ابن مريم، حيث دعا عليهم، فمسخهم الله تعالى خنازير. ويقال: لعن الذين كفروا، أي: أُبعِدوا من رحمة الله، على لسان داود، وعيسى ابن مريم. وقال الزجاج: يحتمل معنيين: أحدهما أنهم مسخوا بلعنتهما، فجعلوا قردة وخنازير. وجائز أن يكون داود وعيسى لعنا من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، يعني: لعن الكفار الذين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: {ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} يعني: الذين أصابهم من اللعنة بما عصوا يعني: بعصيانهم {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} في دينهم، {كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} يعني: لم يمتنعوا عن قبيح من الأفعال، ورضوا به {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} حين لم ينهوا عن المنكر. ثم قال: {ترى كَثِيراً مّنْهُمْ} قال مقاتل: يعني: اليهود {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} من مشركي العرب. وقال الكلبي: {ترى كَثِيراً} من المنافقين {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} يعني: اليهود، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} معناه: لبئس الفعل الذي كانوا يستوجبون به السخط من الله تعالى، ويوجب لهم العقوبة والعذاب {وَفِى العذاب هُمْ خالدون} يعني: دائمون. ثم قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} يعني: المنافقين، لو كانوا يصدقون بتوحيد الله، ونبوة محمد حقيقة وما أنزل إليه من القرآن {مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} يعني: لو كان إيمان المنافقين حقيقة، ما اتخذوا اليهود أولياء في العون والنصرة {ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون} يعني: ناقضين للعهد. ثم قال:
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)} {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ اليهود} وهم يهود بني قريظة، وبني النضير، {والذين أَشْرَكُواْ} يعني: مشركي أهل مكة، {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} قال بعضهم: إنما أراد الذين هم النصارى في ذلك الوقت، لأنهم كانوا أقل مظاهرة على المؤمنين، وأسرع إجابة للإسلام. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به النصارى الذين أسلموا، وفي سياق الآية دليل عليه، وهو قوله: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَآءُ المحسنين} [المائدة: 85] وروى أسباط عن السدي، قال: بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلاً من الحبشة، وسبعة قسيسين، وخمسة رهبان ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه، وقرأ عليهم ما أنزل الله عليه بكوا وآمنوا به ورجعوا إلى النجاشي. فهاجر النجاشي معهم. فمات في الطريق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له. وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أنه سئل عن هذه الآية فقال: هم الوفد الذين قدموا مع جعفر الطيار من أرض الحبشة. وعن الزهري، أنه سئل عن هذه الآية فقال: ما زلنا نسمع أنها نزلت في النجاشي وأصحابه. ثم قال: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً} يعني: المتعبدين، وأصحاب الصوامع، ويقال: {قِسّيسِينَ} علماؤهم، {وَرُهْبَاناً} يعني: خائفين من الله تعالى، وقال بعض أهل اللغة: القس والقسيس: رؤساء النصارى، والقس بفتح القاف النميمة. ثم قال: {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يعني: لا يتعظمون على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} يعني: تسيل من الدمع، {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} يقول: مما عرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم نعته وصفته، {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا} بالقرآن بأنه من الله، {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} يعني: المهاجرين والأنصار. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: {مَعَ الشاهدين} هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون له بالبلاغ ويشهدون للرسل أنهم قد بلغوا الرسالة. ثم قال: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} وذلك أنهم لما رجعوا إلى قومهم، قال لهم كفار قومهم: تركتم ملة عيسى ويقال: إن كفار مكة عاتبوهم على إيمانهم. وقالوا: لم تركتم دينكم القديم، وأخذتم الدين الحديث؟. فقالوا: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} ومعناه: وما لنا لا نصدق بالله أن محمداً رسوله، والقرآن من عنده، {وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق} يعني: وبما جاءنا من الحق، {وَنَطْمَعُ} يقول: نرجو، {أَن يُدْخِلَنَا مَعَ القوم الصالحين} يعني: مع المؤمنين الموحدين في الجنة فمدحهم الله تعالى، وحكى عن مقالتهم، وأخبر عن ثوابهم في الآخرة. فقال: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} من التوحيد، {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَاء المحسنين} يعني: ثواب الموحدين المطيعين. وقد احتج بعض الناس بهذه الآية، أن الإيمان هو مجرد القول، لأنه قال: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} ولكن لا حجة لهم فيها، لأن قولهم كان مع التصديق، والقول بغير التصديق، لا يكون إيماناً. ثم بيّن عقوبة من ثبت على كفره، ولم يؤمن، فقال: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} يعني: مات على ذلك، {أولئك أصحاب الجحيم} والجحيم هو النار الشديدة الوقود. يقال: جحم فلان النار، إذا شدد وقودها. ويقال: لعيْن الأسد جحمة لشدة توقدها. قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} {الجحيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وصف القيامة يوماً، وخوف النار والحساب، فاجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون، فتواثقوا بأن يخصوا أنفسهم، ويترهبوا فنهاهم الله عن ذلك. فنزلت هذه الآية: {الجحيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ}. قال: حدّثنا الفقيه أبو جعفر قال: حدّثنا أبو القاسم أحمد بن محمد، قال: حدّثنا محمد بن فضيل، قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن مدرك بن قزعة، عن سعيد بن المسيب، قال: جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله غلبني حديث النفس، ولا أحب أن أحدث شيئاً حتى أذكر لك، قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَا تُحَدِّثُكَ نَفْسُكَ يَا عُثْمَانُ»؟ قال: تحدثني أن أخصي نفسي. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ إِخْصَاءَ أُمَّتِي الصِّيَامُ» قال: يا رسول الله، إن نفسي تحدثني أن أترهب في رؤوس الجبال. فقال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ تَرْهِيبَ أُمَّتِي، الجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ لانْتِظَارِ الصَّلَوَاتِ» قال: يا رسول الله فإن نفسي تحدثني أن أسيح في الأرض؟. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ: فَإِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الغَزْوُ فِي سَبِيلِ الله، وَالحَجُّ وَالعُمْرَةُ» قال: فإن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله؟ قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ صَدَقَتَكَ يَوْماً بِيَوْمٍ، وَتَكُفُّ نَفْسَكَ وَعِيَالَكَ، وَتَرْحَمُ المَسَاكِينَ، وَاليَتِيمَ، أَفْضَلُ مِنْ ذلك» فقال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أطلق خَوْلة. فقال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ الهِجْرَةَ فِي أُمَّتِي، مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ الله، أَوْ هَاجَرَ إِليَّ فِي حَيَاتِي، أَوْ زَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي، أَوْ مَاتَ وَلَهُ امْرَأَةٌ، أَوِ امْرَأَتَانِ، أَوْ ثَلاثٌ، أَوْ أَرْبَعٌ» قال يا رسول الله فإن نهيتني أن أطلقها، فإن نفسي تحدثني بأن لا أغشاها. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ المُسْلِمَ إِذَا غَشِيَ أَهْلَهُ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ، كَانَ لَهُ وَصِيفاً فِي الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ، فَمَاتَ قَبْلَهُ كَانَ فَرَطاً وَشَفِيعاً يَوْمَ القِيامَةِ. فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ نُوراً يَوْم القِيَامَةِ» فقال: يا رسول الله فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنِّي أُحِبُّ اللَّحْمَ، وَآكُلُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ، وَلَوْ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُطْعِمَنِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لأَطْعَمَنِيهِ» قال: يا رسول الله فإن نفسي تحدثني بأن لا أمسّ الطيب. قال: «مَهْلاً يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي بَالطَّيِّبِ غبّاً غبّاً» وقال: «لا تَتْرُكْهُ يَا عُثْمَانُ، لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ، صَرَفَتِ المَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ القِيَامَةِ» ونزلت هذه الآية {لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ}. {وَلاَ تَعْتَدُواْ} يقول: يعني: لا تحرموا حلاله، {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين}. ويقال: إن مُحَرِّم ما أحل الله كمُحِلِّ ما حرم الله. ثم قال: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّباً} من الطعام والشراب، {واتقوا الله} ولا تحرموا ما أحلّ الله لكم، {الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} يعني: إن كنتم مصدّقين به، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه. ثم أمرهم الله تعالى بأن يكفروا أيمانهم، لأنه لما حرموا الحلال على أنفسهم، كان ذلك يميناً منهم. ولهذا قال أصحابنا: إذا قال الرجل لشيء حلال: هذا الشيء عليّ حرام يكون ذلك يميناً، فأمرهم الله تعالى بأن يأكلوا، ويحنثوا في أيمانهم، وفي الآية دليل: أن الرجل إذا حلف على شيء، والحنث خير له، ينبغي أن يحنث ويكفر بيمينه. وفيها دليل: أن الكفارة بعد الحنث، لأنه أمرهم بالحنث، بقوله: فكلوا ثم أمرهم بالكفارة وهو قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم} قال ابن عباس: اللغو أن يحلف الرجل على شيء بالله، وهو يرى أنه صادق، وهو فيه كاذب. وهكذا روي عن أبي هريرة أنه كان يقول: لغو اليمين: أن يحلف الرجل على شيء، يظن أنه الذي حلف عليه هو صادق، فإذا هو غير ذلك. وقال الحسن: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك، وليس هو كذلك. وقال سعيد بن جبير: الرجل يحلف باليمين الذي لا ينبغي أن يحلف بها، يحرم شيئاً هو حلال، فلا يؤاخذه الله بتركه، لكن يؤاخذه الله إن فعل. وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، وأخرجني الله من مالي وولدي، وقالت عائشة: اللغو: هو قول الرجل لا والله، وبلى والله، على شيء لم يعقده قلبه. ثم قال: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص {عَقَّدتُّمُ} بالتشديد، وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية أبي بكر: {عَقَّدتُّمُ} بالتخفيف، وقرأ ابن عامر: {بِمَا عَقَّدتُّمُ} فمن قرأ: {عاقدتم} فهو من المعاقدة، والمعاقدة تجري بين الاثنين، وهو أن يحلف الرجل لصاحبه بشيء، ومن قرأ بالتشديد فهو للتأكيد. ومن قرأ بالتخفيف لأن اليمين تكون مرة واحدة. والتشديد تجري في التكرار والإعادة. وروى عبد الرزاق عن بكار بن عبد الله قال: سئل وهب بن منبه عن قوله: {عَلِيمٌ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم} قال: الأيمان ثلاثة: لغو وعقد وصبر، فأما اللغو: فلا والله، وبلى والله، لا يعقد عليه القلب، وأما العقد: أن يحلف الرجل لا يفعله فيفعله، فعليه الكفارة، وأما الصبر: بأن يحلف على مال ليقتطعه بيمينه، فلا كفارة له. وروى حسين بن عبد الرحمن عن أبي مالك الغفاري قال: الأيمان ثلاثة: يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين لا يؤاخذ الله بها. وذكر إلى آخره ثم بيّن كفارة اليمين فقال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: الغداء والعشاء. وسئل شريح عن الكفارة فقال: الخبز والزيت والخل والطيب. فقال السائل: أرأيت إن أطعمت الخبز واللحم؟ قال: ذلك أرفع طعام أهلك وطعام الناس. وروي عن ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنهما قالا: لكل مسكين نصف صاع من حنطة يعني: إذا أراد أن يدفع إليهم، وإن أراد أن يطعمهم، فالغداء والعشاء. ثم قال: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت وقال إبراهيم النخعي: لكل مسكين ثوب وقال الحسن: ثوبان أبيضان ثم قال: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يعني: يعتق رقبة، ولم يشترط ها هنا المؤمنة، فيجوز الكفارة بالكافرة والمؤمنة، فالرجل بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة، {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الطعام ولا الكسوة ولا الرقبة فعليه {فَصِيَامُ} يعني: صيام {ثلاثة أَيَّامٍ}. وروى سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح قال: سئل طاوس عن صيام الكفارة، قال: يفرق. قال له مجاهد كان عبد الله يقرأ: متتابعات، قال طاوس: فهو أيضاً متتابعات. وروى مالك عن حميد، عن مجاهد قال: كان أبي يقرأ فصيام ثلاثة أيام متتابعات في الكفارة اليمين. ثم قال: {ذلك} يعني: الذي ذكر {كَفَّارَةُ أيمانكم} عن الطعام والكسوة والعتق والصوم، ثم قال: {إِذَا حَلَفْتُمْ واحفظوا أيمانكم} يعني: ليعلم الرجل ما حلف عليه، فليكفر يمينه إذا حنث، {كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} يعني: أمره ونهيه، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لكي تشكروا رب هذه النعمة، إذ جعل لكم مخرجاً من أيمانكم بالكفارة، والكفارة في اللغة: هو التغطية يعني: يغطي إثمه. قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ} نزلت هذه الآية في شأن سعد بن أبي وقاص، لأنهم كانوا يشربونها، وكانت لهم حلالاً. فجرى بين سعد وبين رجل من الأنصار افتخار في الأنساب، فاقتتلا، فشج رأس سعد، فدعا عمر بن الخطاب، فقال: اللهم أرنا رأيك في الخمر، فإنها متلفة للمال، مذهبة للعقل، فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة {يَسْألُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] فقال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية: {إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان} يعني: حرام، وهو من تزيين الشيطان، {فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يعني: فاتركوا شربها، ولم يقل: فاجتنبوها، لأنه انصرف إلى المعنى، ومعناه: اجتنبوا ما ذكرنا ونهيناكم عن ذلك، قوله: {وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات والنخل والزرع مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ والزيتون والرمان متشابها وَغَيْرَ متشابه كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأنعام: 141] ولم يقل: من ثمرها. ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله} يعني: عن طاعة الله، {وَعَنِ الصلاة} لأنهم مُنِعوا عن الصلاة إذا كانوا سكارى. ولأنه إذا سكر لا يعقل الطاعة وأداء الصلاة. ثم قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} يعني: انتهوا عن شربها، فقال عمر: قد انتهينا يا رب. وعن عطاء بن يسار: أن رجلاً قال لكعب الأحبار: أحُرِّمت الخمرة في التوراة؟. قال: نعم هذه الآية {إِنَّمَا الخمر والميسر} مكتوب في التوراة: إنا أنزلنا الحق لنذهب به الباطل، وتبطل به اللعب والدفف والمزامير والخمر مرة لشاربها، أقسم الله تعالى بعزه وجلاله، أن من انتهكها في الدنيا، أعطشته في الآخرة يوم القيامة، ومن تركها بعدما حرمتها لأسقينها إياه في حظيرة القدس، قيل: وما حظيرة القدس؟ قال: الله هو القدس، وحظيرته الجنة. ثم قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} يعني: في تحريم الخمر، {واحذروا} عن شربها، {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} يقول: أعرضتم عن طاعة الله وطاعة الرسول {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} فهذا تهديد لمن شرب الخمر بعد التحريم، فلما نزلت هذه الآية قال: حُييُّ بن أخطب: فما حال من مات منهم وهم يشربونها. فعيّر بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن ذلك، فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} يعني: شربوا قبل تحريمها، ولم يعرفوا تحريمها. ويقال: إن بعض الصحابة كانوا في سَفْرَة فشربوا منها بعد التحريم، ولم يعرفوا تحريمها. فلما رجعوا سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: {وَلَيْسَ *** عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} يعني: شربوا قبل تحريمها، {إِذَا مَا اتقوا} الشرك، {وَءامَنُواْ} يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى، والقرآن {وَعَمِلُواْ الصالحات ثُمَّ اتَّقَواْ} المعاصي {وَءامَنُواْ} يعني: صدقوا بعد تحريمها {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين} في أفعالهم ويقال: معناه ليس عليهم جناح فيما طعموا قبل تحريمها إذا اجتنبوا شربها بعد تحريمها. وروى عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يومئذٍ معاوية بن أبي سفيان، وقالوا هي لنا حلال وتأولوا قوله {لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} فكتب في ذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: أن ابعثهم إليّ، قبل أن يفسدوا من قِبَلك. فلما قدموا على عمر، جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم ما ترون؟ فقالوا: إنهم قد افتروا على الله كذباً، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به، فاضرب أعناقهم، وعليّ ساكت فقال: يا عليّ ما ترى؟ قال: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا فاضربهم ثمانين جلدة، وإن لم يتوبوا فاضرب أعناقهم، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين جلدة وأرسلهم. قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} {ياأيها الذين ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَئ مّنَ الصيد} يعني: ليختبرنّكم الله. والاختبار من الله هو إظهار ما علم منهم بشيء من الصيد. يعني: ببعض الصيد. فتبعيضه يحتمل أن يكون معناه: ما داموا في الإحرام، فيكون ذلك بعض الصيد، ويحتمل أن يكون على معنى التخصيص، يحمل ذلك على وجه تبيين جنس من الأجناس كما قال: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 30] ويحتمل بعض الصيد، يعني صيد البر دون صيد البحر، {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني: تأخذونه بأيديكم بغير سلاح، مثل البيض والفراخ، {ورماحكم} يعني: تأخذونه بسلاحكم، وهو الكبار من الصيد، {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} يعني: يميز الله من يخاف من الذين لا يخافون. وبيّن فضل الخائفين: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} يعني: من أخذ الصيد بعد النهي {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني: وجيع يعني الكفارة والتعذيب في الدنيا والآخرة، والعذاب إن مات بغير توبة. ثم قال: {أَلِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يعني: وأنتم محرمون ويقال: وأنتم محرمون أو في الحرم. ثم بيّن الكفارة فقال: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} يعني: عليه الفداء مثل ما قتل. قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي: {فَجَزَاء مّثْلُ} بتنوين الهمزة وبضم اللام. وقرأ الباقون: بالضم بغير تنوين وبكسر اللام. فأما من قرأ: بالتنوين. فمعناه: فعليه جزاء، ثم صار المثل نعتاً للجزاء. وأما من قرأ: بغير تنوين فعلى معنى الإضافة إلى الجزاء يعني: عليه جزاء ما قتل من النعم، يشتري بقيمته من النعم ويذبحه. يعني: إذا كان المقتول يوجد النعم. ثم قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} يعني: رجلان مسلمان عدلان ينظران إلى قيمة المقتول، ثم يشتري بقيمته {هَدْياً بالغ الكعبة} يعني: يبلغ بالهدي مكة ويذبحه هناك ويتصدق بلحمه على الفقراء. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين} يعني: إن شاء يشتري بقيمته طعاماً ويتصدق به على كل مسكين نصف صاع من حنطة {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} يعني: يصوم مكان كل نصف صاع من حنطة يوماً. قال ابن عباس: إنما يقوّم لكي يعرف مقدار الصيام من الطعام؛ فهو بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة إن شاء أطعم، وإن شاء أهدى، وإن شاء صام. قرأ نافع وابن عامر: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين} بغير تنوين على معنى الإضافة. وقرأ الباقون {كَفَّارَةُ} بالتنوين والطعام نعتاً لها. ثم قال: {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} يعني: عقوبة ذنبه لكي يمتنع عن قتل الصيد. {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} يعني: عما مضى قبل التحريم {وَمَنْ عَادَ} بعد التحريم {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} يعني: يعاقبه الله تعالى. ومع ذلك يجب عليه الكفارة. وقال بعضهم: لا يجب عليه الكفارة إذا قتل مرة أخرى. وروى عكرمة عن ابن عباس: أنه سئل عن المحرم يصيب الصيد فيحكم عليه، ثم يصيبه أيضاً قال: لا يحكم عليه، وتلا هذه الآية {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} فذلك إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عاقبه. وعن شريح: أن رجلاً أتاه فسأله أن يحكم عليه فقال له شريح: هل أصبت صيداً قبله؟ قال: لا. قال: لو كنت أصبته قبل ذلك لم أحكم عليك. وقال بعضهم: سواء قتل قبل ذلك أو لم يقتل فهو سواء. لأنه قاتل في المرة الثانية كما هو قاتل في المرة الأولى. وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم أنهم حكموا ولم يسألوه أنك أصبت قبل ذلك أم لا. وروى ابن جريج عن عطاء أنه سئل عن قوله: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} قال: يعني: ما كان في الجاهلية. ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، ومع ذلك عليه الكفارة. وروى سعيد بن جبير مثله. وقد قال بعض الناس: إنه إذا قتل خطأ فلا تجب عليه الكفارة. وهذا القول ذكر عن طاوس اليماني. وقال غيره: تجب عليه الكفارة. وروى ابن جريج عن عطاء قال سألت عن قوله: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً} فلو قتله خطأ أيغرم؟ قال: نعم يعظم بذلك حرمات الله. ومضت به السنن. وعن الحسن قال: يحكم عليه في الخطأ والعمد. وعن إبراهيم النخعي وعن مجاهد مثله. وبهذا القول نأخذ ونقول: بأن العمد والخطأ سواء، والمرة الأولى والثانية سواء. ثم قال تعالى: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} من أهل المعصية آخذ الصيد بعد التحريم. ويقال: {وَمَنْ عَادَ} مستحلاً أو مستخفاً بأمر الله تعالى {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} يعني: يعذبه الله تعالى {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} يعذب من عصاه. قوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر} يعني: للمقيمين والمسافرين. وهي السمكة المالحة. ويقال: {وَطَعَامُهُ} ما نضب الماء عنه فأخذ بغير صيد ميتاً. ويقال: كل ما سقاه الماء فأنبت من الأرض فهو طعام البحر. قال الفقيه: حدّثنا الفضل بن أبي حفص. قال: حدّثنا أبو جعفر الطحاوي. قال: حدّثنا محمد بن خزيمة قال: حدّثنا حجاج بن المنهال قال: حدّثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: كنت في البحرين، فسألني أهل البحرين عما يقذف البحر من السمك، فقلت: كلوه. فلما رجعت إلى المدينة سألت عن ذلك عمر بن الخطاب فقال: ما أمرتهم به؟ فقلت: أمرتهم بأكله فقال: لو أمرتهم بغير ذلك لضربتك بالدرة. ثم قرأ عمر: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ متاعا لَّكُمْ} فصيده ما صيد وطعامه: ما رمي به. ثم قال: {وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} يعني: ما دمتم محرمين فلا تأخذوا الصيود {واتقوا الله} فلا تأخذوه في إحرامكم {الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجزيكم بأعمالكم. قوله تعالى:
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)} {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ} يعني: لجأ إلى الحرم آمناً للناس. كان الرجل إذا أصاب ذنباً أو قتل قتيلاً ثم لجأ إلى الحرم آمناً بذلك. ويقال: قياماً للناس يعني قواماً لمعايشهم. قرأ ابن عامر: {قَيِّماً} على جهة المصدر وقرأ الباقون: {قِيَاماً} على جهة الاسم والمصدر. وإنما سميت الكعبة كعبة لارتفاعها. ولهذا سمي الكعبان. ويقال للجارية: إذا نهدت ثدياها قد كعبت ثدياها وهي كاعب كما قال: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ: 33]. ثم قال: {والشهر الحرام والهدى والقلائد} يعني: جعل الشهر الحرام والهديَ والقلائد آمناً للناس وقواماً لمعايشهم، لأنهم كانوا إذا توجهوا إلى مكة، وقلّدوا الهدي، أمنوا. ويقال: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ} يعني: معالم للناس. وقال مقاتل بن حيان: يعني: علماً لقبلتهم يصلون إليها. وقال سعيد بن جبير: صلاحاً لدينهم. وحرم عليهم الغارة في الشهر الحرام. وأخذ الهدي والقلائد في الشهر الحرام. {ذلك} الذي جعل الله من الأمن {لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض} يعني: لتعلموا أن الله يعلم صلاح ما في السموات وما في الأرض. {وَأَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} يقول: عليم بكل شيء من صلاح الخلق ويقال: هو مردود إلى ما أنبأ الله تعالى على لسان نبيه في هذه السورة من أخبار المنافقين، وإظهار أسرارهم. فقال: ذلك الذي ذكر الله تعالى لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم من السر والعلانية.
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} {اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} يعني: إذا عاقب فعقوبته شديدة لمن عصاه {وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن أطاعه. قوله تعالى: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} يعني: أن الرسول ليس عليه طلب سرائرهم، وإنما عليه بتبليغ الرسالة، والله تعالى هو الذي يعلم سرائرهم. قوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} يعني: لا يستوي الحلال والحرام. قال في رواية الكلبي: نزلت في شأن حَجَّاج اليمامة شريح بن ضبيعة حين أراد المسلمون أخذ ماله، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأخبرهم أن أخذ ماله حرام. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} يعني: كثره مال شريح بن ضبيعة {واتقوا الله} لا تستحلوا ما حرم الله عليكم {واتقون يأُوْلِي الالباب} يا ذوي العقول {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يعني: تأمنون من عذابه. وروى أسباط عن السدي أنه قال: {الخبيث} هم المشركون {والطيب} هم المؤمنون. وقال الضحاك: {لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} يعني: صدقة من حرام لا تصعد إلى الله تعالى، لا توضع في خزائنه. وصدقة من حلال تقع في يد الرحمن يعني: يقبلها. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ} يعني: مثقال حبة من صدقة الحلال أرجح عند الله من جبال الدنيا من الحرام. وقوله تعالى: {تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عباس وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97] وقال: «يا أيها الناس كتب عليكم الحج» فقام رجل فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه. ثم عاد فقال: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ، وَلَوْ وَجَبَ مَا اسْتَطَعْتُمُوهُ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتُمْ " ثم قال: " إنَّمَا هِيَ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ أو قال: مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ " ونزل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)} {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وعن أبي عوانة أنه قال: سألت عكرمة عن قوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قال: ذلك يوم قام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه، فأكثروا عليه فغضب. وقال: " لا تَسْألُونِي عَنْ شَيْءٍ إلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ " فقام رجل فكره المسلمون يومئذٍ مقامه. فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «حُذَافَةُ» يعني: رجلاً غير أبيه فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله رضينا بالله رباً، وبك نبياً، فنزلت هذه الآية {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. وروي في خبر آخر أن رجلاً سأله فقال: أين أبي؟ فقال: «فِي النَّارِ». وروي عن نافع أنه سئل عن هذه الآية فقال: لم تنزل منذ قط كثرة السؤال تكره. ثم قال تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ} يعني: وقت الذي ينزل جبريل {تُبْدَ لَكُمْ} يعني: تظهر لكم. ويقال: فيها تقديم يعني: وإن تسألوا عنها تبد لكم حين نزول القرآن. ثم قال: {عَفَا الله عَنْهَا} يعني. عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن ولم يوجبها عليكم {والله غَفُورٌ} ذو التجاوز {حَلِيمٌ} حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة. ثم قال: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} يعني: عن هذه الأشياء {مِن قَبْلِكُمْ} حيث سألوا المائدة من عيسى، وغيرهم سألوا أنبيائهم أشياء {ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كافرين} يعني: صاروا كافرين. قوله تعالى:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)} {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} يعني: ما جعل الله حراماً من بحيرة، لقولهم: إن الله أمرهم بتحريمها. ونزلت في مشركي العرب، فكانت الناقة إذا ولدت البطن الخامس، فإن كان الخامس ذكراً ذبحوه للآلهة، وكان لحمه للرجال دون النساء، وإن مات أكله الرجال والنساء. وإن كان الولد الخامس أنثى شَقُّوا أذنها وهي البحيرة، ثم لا يُجَزّ لها وبر ولا يُذكر عليه اسم الله، وألبانها للرجال دون النساء. فإذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء. {وَلاَ سَآئِبَةٍ} وأما السائبة: فهي الأنثى من الأنعام كلها. إذا قدم الرجل من سفره، أو برأ من مرضه، أو بنى بناءً، سيّب شيئاً من الأنعام للآلهة، وخرجها من ملكه، ويسلمها إلى سدنة البيت لآلهتهم، ولا يركبونها. وكان صوفها وأولادها للرجال دون النساء. {وَلاَ وَصِيلَةٍ} وأما الوصيلة: فهي من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن. فإن كان الولد السابع جدياً ذبحوه لآلهتهم، وكان لحمه للرجال دون النساء؛ وإن كانت عناقاً، كانوا يستعملونها بمنزلة سائر الغنم. وإن كان جدياً وعناقاً، قالوا: إن الأخت قد وصلت بأخيها، فحرمتا جميعاً، وكانت المنفعة للرجال دون النساء. وإن ماتا تشارك الرجال والنساء. {وَلاَ حَامٍ} وأما الحام: فهو الفحل من الإبل إذا ركب ولده. قالوا: قد حمى ظهره فيهمل، ولا يحمل، ولا يركب، ولا يمنع من المياه، ولا عن المراعي، فإذا مات أكله الرجال والنساء. وكانوا يقولون: هذه الأشياء كلها من أحكام الله تعالى. قال الله تعالى: ما حرّم الله هذه الأشياء {ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب}. وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنِّي أعْرِفُ أوَّلَ مَنْ سَيِّبَ السَّوَائِبِ، وَأَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ» قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: «عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ أخُو بَنِي كَعْبٍ لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قُصبَهُ فِي النَّارِ يُؤْذِي ريحُهُ أهْلَ النَّارِ، وَإنِّي لأعْرِفُ مَنْ بَحَّرَ البَحَائِرَ» قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: «رَجُلٌ مِنْ بَنِي مدْلِج كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ، فَجَدَعَ آذَانَهُما، وَحَرَّمَ ألْبَانَهُمَا، ثُمَّ شَرِبَ ألْبَانَهُمَا بَعْدَ ذلك. فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ وَهُوَ وَهُمَا يَعضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا، وَيَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا» ثم قال تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} يعني: ليس لهم عقل يعقلون أن الله هو المحلل والمحرم، وليس لغيره أن يحل ويحرم. ثم أخبر عن جهلهم فقال:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا إلى مَا أنزل الله وإلى الرَّسُول} من تحليل ما حرمتم على أنفسكم، وما بيّن رسوله. ويقال: تعالوا إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} من الدين والسنة. قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله} يعني: أيتبعون آباءهم وإن كان آباؤهم جهالاً، فنهاهم الله عن التقليد، وأمرهم بالتمسك بالحق وبالحجة. وقوله تعالى: {يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} معناه: الزموا أنفسكم كما تقول: عليك زيداً، معناه: الزم زيداً. معناه: الزموا أمر أنفسكم لا يؤاخذكم بذنوب غيركم. {لاَ يَضُرُّكُمْ} وأصل اللغة: لا يضرركم. فأدغم أحد الراءين في الثاني، وضمت الثانية لالتقاء الساكنين. وهذا جواب الشرط وموضعه الجزم. وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: إذا رأيتم شُحًّا مطاعاً، وهوًى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليكم بخويصة أنفسكم. وروى عمر بن جارية اللخمي عن أبي أمية قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يَا أبَا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ. فَإِذَا رَأَيْتَ دُنْيا مُؤْثَرَةً، وَشُحّاً مُطاعاً، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأي بِرَأيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ. فَإنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ أيَّامَ الصَّبْرِ المُتَمِسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلاً " قالوا: يا رسول الله كأجر خمسين عاملاً منهم قال: " لا بَلْ كَأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلاً مِنْكُمْ " وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا أيها الناس إنكم تتلون هذه الآية على غير تأويلها. إنه كان رجال طعموا بالإسلام، وذاقوا حلاوته، وكانت لهم قرابة من المشركين. فأرادوا أن يذيقوهم حلاوة الإسلام، وأن يدخلوهم في الإسلام. فنزل {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم}. والذي نفس أبي بكر بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليعمنكم الله بعقاب من عنده. وروي عن أبي العالية أنه قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود، فوقع بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال بعضهم: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف؟ فقال بعضهم: عليك نفسك إن الله تعالى يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} يقول: لا يضركم ضلالة من ضلّ {إِذَا اهتديتم} فقال ابن مسعود: مه لم يجئ تأويل هذه الآية، بعد. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعاً، فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فإذا اختلفت القلوب والأهواء فعند ذلك جاء تأويلها. وقوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} يقول: لا يضركم ضلالة من ضلّ {إِذَا اهتديتم} إذا ثبتم على الحق {إِلَى الله} تعالى {مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا. وقال في رواية الكلبي نزلت في «منذر بن عمرو» بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر ليدعوهم إلى الإسلام، فأبوا الإسلام، فوضع عليهم الجزية فقال: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} من أهل هجر، وأقر بالجزية {إِذَا اهتديتم} إلى الله يعني آمنتم بالله. قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} {تَعْمَلُونَ يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ} {شَهَادَةً}: رفع بالابتداء وخبره (اثنان) ومعناه: شهادتكم فيما بينكم اثنان مسلمان عدلان {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} فأراد أن يشهد على وصيته، وكان مقيماً. ولم يكن مسافراً فليُشهد على وصيته اثنين مسلمين {حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الارض} يعني: إذا كنتم في السفر ولم تقدروا على مسلمين، فأشهدوا رجلين من غيركم يعني: من غير أهل دينكم. وروى مغيرة عن إبراهيم قال: إذا كان الرجل في سفر فلم يجد المسلمين يشهدهما على وصيته، فيشهد غير أهل دينه. فإن اتهما حبسا من بعد الصلاة فيغلظ عليهما في اليمين؛ وإن شهد رجلان من الورثة أنهما خانا وكذبا صدقا بما قالا، وأخذ من الآخرين يعني: من الشاهدين ما ادعي عليهما. وروي عن مجاهد أنه قال: إذا مات المؤمن في السفر لا يحضره إلا كافران أشهدهما على ذلك. فإن رضي ورثته مما حلفا عليه من تركته فذلك. ويحلف الشاهدان أنهما لصادقان، فإن ظهر أنهما خانا، حلف اثنان من الورثة، وأبطلا أيمان الشاهدين. وروي عن شريح أنه قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في السفر، ولا تجوز في السفر إلا على الوصية، وهكذا قال إبراهيم النخعي. وبه قال ابن أبي ليلى. واحتجوا بظاهر هذه الآية. وقال علماؤنا: لا يجوز شهادة الذمي على المسلم في الوصية ولا في غيره. وروي عن عكرمة أنه قال: {يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة} قال: من غير عشيرتكم. وكذلك قال الحسن: {يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة} يعني: من غير قبيلتكم، كلهم من أهل العدالة. قال: ألا ترى إلى قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة} وقال زيد بن أسلم: كان ذلك في رجل توفي، وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك كان في أول الإسلام، والأرض أرض الحرب، والناس كفار، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة. وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: {يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة} قال: هي منسوخة وقال الضحاك: نسخت هذه الآية بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] ورفع اليمين عن الشهود، وأبطل شهادة أهل الذمة إلا بعضهم على بعض. ويقال: لنزول هذه الآية قصة. وذلك أن ثلاثة نفر خرجوا إلى السفر: تميم الدّاري، وعدي بن زيد، وبديل بن ورقاء مولى العاص بن وائل السهمي أبي عمرو بن العاص، فحضر بديل بن ورقاء الوفاة وكان مسلماً، وأوصى إلى تميم الدّاري وإلى عدي بن زيد وكانا نصرانيين، وأمرهما أن يسلّما أمتعته إلى أهله، وكتب أسماء الأمتعة، وأدرجه في ثيابه. فلما قدما المدينة وسلما المتاع إلى أهله، فوجد أهله الكتاب وفيه أسماء الأمتعة، وفيه جام فضة لم يسلماه إليهم. فخاصمهما المطلب بن أبي وداعة وعمرو بن العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت الآية: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الارض} {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} بموت بديل بن ورقاء {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة} يعني: صلاة العصر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بين الناس بعد صلاة العصر. فحلَّف الشاهدين، فحلفا أنهما لم يكتما شيئاً، فذلك قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الارض} يعني: سافرتم في الأرض، فأصابتكم في السفر مصيبة الموت يعني: موت بديل بن ورقاء، {تَحْبِسُونَهُمَا} يعني: تقيمونهما من بعد الصلاة يعني: صلاة العصر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم {فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم} يعني: ظننتم بالشاهدين ريبة أو شككتم في أمرهما {لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً} يعني: باليمين. يعني: أن الشاهدين يحلفان بالله أنهما لم يشتريا بأيمانهما ثمناً قليلاً من عرض الدنيا. {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} يعني: ذا قرابة معنا في الرحم. لأن الميت كان بينه وبينهما قرابة {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} إن سألنا عن ذلك. فإن كتمناها يعني: الشهادة: {إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ الاثمين} يعني: الفاجرين. ثم وجد الجام أي الكأس بعد ذلك في أيديهما يبيعانه في السوق. وقالا: إنا كنا اشتريناه منه، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً} يعني: خانا وكتما شيئاً من المال {فَآخَرَانِ} من أولياء الميت {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} يعني: مقام النصرانيين {مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الاوليان فَيُقْسِمَانِ بالله} يعني: يحلف أولياء الميت أن المتاع متاع صاحبنا {لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما} يعني: يمين المسلمين وشهادتهما أحق يعني: أولى من شهادة الكافرين. {وَمَا اعتدينا} في الشهادة والدعوى {إِنَّا إِذَا} اعتدينا فحينئذٍ {لَّمِنَ الظالمين}. قرأ عاصم في رواية حفص: {استحق} بنصب التاء. وقرأ الباقون: بضم التاء فمن قرأ بالنصب جعل الذين نعتاً للمدعين ومعناه: فآخران من المستحقين يقومان مقامهما. ومن قرأ بالضم: جعل الذين نعتاً للمدعى عليهم. وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر {الاولين}. وقرأ الباقون: {الاوليان}. فمن قرأ الأولين، يجعله خفضاً لأنه بدل من الذين. فكأنه يقول: من الأولين اللذين استحق عليهم. ومن قرأ: {الاوليان} صار رفعاً على البدل مما في {يِقُومَانُ} المعنى: فليقم {الاوليان} بالميت. قال القتبي: {الذين استحق عَلَيْهِمُ الاوليان} وهما الوليان. يقال: هذا الأولى بفلان. ثم يحذف من الكلام بفلان فيقال: هذا الأولى وهذان الأوليان، كما يقال: هذا الأكبر وهذان الأكبران و{عَلَيْهِمْ} ها هنا يعني: منهم يعني: استحق منهم كما قال الله تعالى: {الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] يعني: من الناس يستوفون. قوله تعالى: {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة} يعني: ذلك أحرى وأجدر. أن يأتوا بالشهادة. يعني: يقيموا الشهادة {على وَجْهِهَا} كما كانت. يعني: يقيموا شهادة المدعي مقام شهادة المدعى عليه إذا ظهرت الخيانة، لكي لا يخونا في الشهادة، ويأتيا بالشهادة على وجهها. ثم قال: {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم} يعني: إذا خافا أن ترد اليمين إلى غيرهما، امتنعا عن الكذب. وقد احتج بعض الناس بهذه الآية بأن اليمين ترد إلى المدعي، ولا حجة له فيه، لأن ردّ اليمين حادثة أخرى، وهو ظهور الخيانة منهما. لأن دعوى الثاني دعوى الشرى، ودعوى الأول دعوى الكتمان. ثم قال: {واتقوا الله} ولا تخونوا {واسمعوا} ما تؤمرون به {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} يعني: الخائنين. قوله تعالى:
{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} {يَوْمٍ} صار نصباً لأن معناه: اتقوا {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} {فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ} يقول: ماذا أجابكم قومكم في التوحيد {قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا} من هول ذلك اليوم، ومن شدة المسألة، وهي في بعض مواطن يوم القيامة قالوا: {إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} ما كان وما لم يكن. وروى أسباط عن السدي قال: نزلوا منزلاً ذهبت فيه العقول فلما سئلوا؟ قالوا: لا علم لنا ثم نزلوا منزلاً آخر، فشهدوا على قومهم. ويقال: هذا عند زفرة جهنم فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل عند ذلك إلا قال: نفسي نفسي فعند ذلك قالوا: لا علم لنا. ويقال: كان ذلك عند أول البعث، ثم يشهدون بعد ذلك بتبليغ الرسالة. قوله تعالى:
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)} {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ **اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ} بالنبوة وهذا في الآخرة {وعلى والدتك} ثم بيّن النعمة التي أنعم الله عليه في الدنيا قال: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} يعني: اعنتُك بجبريل عليه السلام و{تُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً} يعني: بعد ثلاثين سنة حين أوحى الله إليه، قال الكلبي: فمكث في رسالته ثلاثين شهراً، ثم رفعه الله ويقال: أوحي إليه وهو ابن ثلاثين سنة ومكث في الرسالة ثلاث سنين، ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. قال: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة} يعني: الخط بالقلم والحكمة يعني: الفقه والفهم {والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا} وقال في موضع آخر: {وَرَسُولاً إلى بنى إسراءيل أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أنى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئ الاكمه والابرص وَأُحْىِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [عمران: 49] بلفظ التذكير، لأنه انصرف إلى الطير. وقال ها هنا {فَتَنفُخُ فِيهَا} بلفظ التأنيث، لأنه انصرف إلى الهيئة المتخذة. ويقال: فيها يعني في الطين {فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى}. قرأ نافع: {***طائراً} بالألف. وقرأ الباقون: {عَلَيْهِمْ طَيْراً}. {وَتُبْرِئ الاكمه والابرص بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِى} يعني: تحيي الموتي بإذني. يعني: أحييته بدعائك. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: التقى عيسى ابن مريم عليه السلام وإبليس على عقبة من عقبات بيت المقدس. فقال له إبليس: أنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك، أنك تكلم الناس في المهد صبياً، وأنك أحييت الموتى، وتبرئ الأكمه والأبرص. فقال عيسى عليه السلام: بل العظيم الذي بإذنه أحييت الموتى، وهو الذي أنطقني. فقال إبليس: أنت إله الأرض. فقال عيسى عليه السلام: بل إله الأرض والسماء واحد. فكان في ذلك حتى جاءه جبريل وضربه بجناحه وألقاه في لجج البحار. ثم قال: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ} إذ هموا بقتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} يعني: بالعلامات والعجائب {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} يعني: سحر ظاهر. قرأ حمزة والكسائي: {ساحر} بالألف. وقرأ الباقون: {ساحر} بغير ألف. فمن قرأ بالألف يعني: هذا رجل ساحر. ومن قرأ بغير ألف يعني: هذا الفعل سحر. والاختلاف في أربع مواضع: هاهنا، وفي سورة يونس، وفي سورة هود، وفي سورة الصف. قرأ حمزة والكسائي في هذا كله: بالألف. وقرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر في هذا كله: بغير ألف. وقرأ عاصم وابن كثير: بغير ألف إلا في سورة يونس. وقوله تعالى:
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)} {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} يعني: ألهمتهم وألقيت في قلوبهم. ويقال: أوحيت إلى عيسى ليبلغ الحواريين: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى} يعني: صدقوا بتوحيدي {وَبِرَسُولِى} فلما أبلغهم الرسالة {قَالُواْ ءامَنَّا} يقول: صدقنا بهما {واشهد} يا عيسى {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي: مقرون. ويقال: هذا معطوف على أول الكلام. إذ قال الله يا عيسى. وقال له أيضاً: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} يعني: ألهمتهم. وقال مقاتل: يقوم عيسى خطيباً يوم القيامة بهذه الآيات، ويقوم إبليس خطيباً لأهل النار بقوله: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الامر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فَلاَ تَلُومُونِى ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] الآية قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قرأ الكسائي: بالتاء {هَلُ تَسْتَطِيعَ رَبَّكَ} وبنصب الباء. وقرأ الباقون: بالياء وبضم الباء. فمن قرأ: بالتاء {هَلُ تَسْتَطِيعَ *** رَبَّكَ} معناه: هل تستطيع أن تدعو ربك؟ ومن قرأ: بالياء معناه: هل يجيبك ربك؟ {أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} وذلك أن عيسى لما خرج، اتبعه خمسة آلاف أو أقل أو أكثر. بعضهم كانوا أصحابه، وبعضه كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة، أو كانوا زمنى، أو عمياناً. وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون، وبعضهم نظارة. فخرج إلى موضع، فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة، فجاعوا. فقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو الله تعالى بأن ينزل علينا مائدة من السماء. فجاءه شمعون. فأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء ف {قَالَ} عيسى: قل لهم {اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. ويقال: هذا القول للحواريين: قل لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين فلا تسألوا لأنفسكم البلاء. فأخبر شمعون بذلك القوم ف {قَالُواْ} لشمعون قل له: {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} يعني المائدة {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} يعني: تسكن قلوبنا إلى ما دعوتنا إليه {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} بأنك نبي {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين} لمن غاب عنا، ولمن بعدنا، فقام عيسى وصلى ركعتين. ثم:
|